قصة الأعرابي ومعاوية بن أبي سفيان

قصة الأعرابي ومعاوية بن أبي سفيان

الصيد في معارف الكتب
هذه القصة  استقيتها من كتاب « أخبار النساء لابن القيم الجوزية » ;وهي قصة فريدة من نوعها ، ستجدها شيقة وممتعة وأحداثها ذات إثارة غير معهودة .

جلس معاوية بن أبي سفيان ذات يوم ٍبمجلسٍ كان له بدمشق على قارعة الطّريق،
وكان المجلس مفتّوحَ الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه، وكان الوقت ظهراً، وقد لفحت الهواجر، إذ رأى رجلاً يمشي نحوه، وهو يتلظى من حر التراب، وينط في مشيته حافياً، فتأمله الخليفة، وقال لجلسائه: هل خلق الله سبحانه وتعالى أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في هذا الوقت، وفي مثل هذه الساعة وفي مثل هذا الحر؟ فقال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين.
فقال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّته فوالله لئن كان فقيراً لأغنينّه، ولئن كان شاكياً لأنصفنّه، ولئن كان مظلوماً لأنصرنّه، ولئن كان غنياً لأفقرنّه. يا غلام! إن طلبني هذا الأعرابي، فلا تمنعه من الدخول علي.
فخرج وانتظره حتى وصل، فقال: ماذا تريد؟ قال أريد : أمير المؤمنين.
قأذن له بالدخول.

قصة الأعرابي ومعاوية بن أبي سفيان على قناة رحيل الليل

دخل الأعرابي ، على الخليفة فسلم . فقال له معاوية: من أين الرجل؟ قال: من بني عذرة.

قال: فما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ قال: جئتك مشتكياً وبك متسجيراً.
قال: ممن؟ قال: من ابن عمك مروان بن الحكم عامل المدينة، وأنشد يقول:
——
معاويُ! يا ذا الجود والحلم والبذل … ويا ذا الندى والعلم والرشد والنبل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي .. فيا غيثُ! لا تقطع رجائي من العدل
وجُدْ لي بإنصاف من الجائر الذي … بلاني بشيء كان أيسَرَه قتلي
سَبَانِيَ سُعدي وانبرى لخصومتي … وجار ولم يعدل وأغصبني أهلي
قصدت لأرجو نفعه فأثابني — بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكبل
وهمَّ بقتلي غير أن منيتي … تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عنّي جنّةً — فقد طار من وُجدٍ بسُعدى لها عقلي
—–
فلما سمع معاوية كلامه، وقد استشاط غيظاً ، قال له: مهلاً يا أخا العرب! اذكر قصتك وبينِّن لي عن أمرك، فقال: يا أمير المؤمنين، كانت ابنة عمِّي لي زوجة وكنت لها محباً وبها ولِعاً، وكنت بها قرير العين طيب النفس في أصلح حال وأنعم بال، وكان لي قطيع من الإبل كنت أستعين بها على قوام حالي ، فأصابتنا سنة قضت على كل شيئ، فأصبحت لا أملك
شيئاً، فلما قل ما بيدي وذهب ما لي وصرت مهاناً بين الناس وابتعدوا عني وقد ساءت حالي ولم أجد ناصراً و لا معيناً فيما أصابني من ضر، ولم يعد أحد يرغب في زيارتي.

فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وذهاب المال أخذها مني وجحدني وطردني وأغلظ علي، فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم راجياً منه نصرتي، فلما أستدعى أباها وِسأله عن حالي قال: ما أعرفه قط. فقلت: أصلح الله الأمير إن رأى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها ففعل، وبعث خلفها. فلما حضرت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب، فصار لي خصماً وعلي مُنْكِراً، وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء، أو استهوت بي الريح في مكان سحيق. ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوجها لي على ألف دينار وعشرة آلاف درهم، وأنا ضامن خلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في المال ووافق على ذلك. فلما كان من الغد بعث إلي وأحضرني ونظر إلي كالأسد الغضبان، وقال: طلق سعاد! أيها الأعرابي ! فقلت: لن أفعل، فسلط علي جماعة من غلمانه فأخذوني وأذاقوني أشد أنواع العذاب فلم أجد لي بداً من طلاقها ففعلت. فأعادني إلى السجن، فمكثت فيه إلى أن انقضت عدتها فتزوجها وأطلقني، وقد أتيتك راجياً وبك مستجيراً وإليك ملتجئاً، وأنشد يقول:
——–
في القلب مني نارٌ… والنار فيه الدّمار
وفي الجسم مني سقيمٌ .. فيه الطبيب يحار
والعين تهطل دمعاً — فدمعها مدرار
حملتُ منه عظيماً — فما عليه اصطبار
فليس ليليَ ليلٌ — ولا نهاري نهار
فارحم كئيباً حزيناً — فؤادهُ مُستطار
أرْدُدْ عليّ سعادي — يثيبك الجبار
——
ثم اضطرب وخرّ مغشياً عليه بين يدي أمير المؤمنين . فلما سمع معاوية كلامه وإنشاده، وكان متكئاً ، فجلس و قال: إنا لله وإنا إليه راجعون إعتدى والله ابن الحكم في حدود الدين وظلم واجترأ على حرمة المسلمين.
ثم قال: لقد أتيتني والله يا أعرابي بحديث لم أسمع بمثله قط. ثم دعا بدواة وقرطاس وكتب إلى مروان ابن الحكم كتاباً يقول فيه:
أنه قد بلغني أنك تعديت على رعيتك في حدود الدين، وانتهكت حرمة لرجل من المسلمين .وينبغي لمن كان والياً أن يكف بصره عن شهواته ويزجر نفسه عن لذاتها، ثم كتب بعده كلاماً طويلاً وأبيات شعر يقول فيها:
——-
وليت أمراً عظيماً لست تدركه … فاستغفر الله من فعل امرئ زاني
وقد أتانا الفتى المسكين منتحباً … يشكو إلينا ببث ثم أحزان
أعطي الإله يميناً لا يكفرها … شيءٌ، وأبرأ من ديني وإيماني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به … لأجعلنك لحماً بين عقبان
طلق سعاد وعجلها مجهزةً … مع الكميت ومع نصر بن ذبيان
فاختر لنفسك إمّا أن تجود بها أو أن تلاقي المنايا بين أكفان
——–

ثم طوى الكتاب وختمه واستدعى الكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما في المهمات الخاصة لأمانتهما، فأخذا الكتاب وسارا حتى قدما المدينة، فدخلا على مروان بن الحكم، وسلما عليه، وسلماه الكتاب، وأعلماه بصورة الحال، فصار مروان يقرأ ويبكي؛ ثم قام إلى سعاد وأعلمها ولم يسعه مخالفة معاوية فطلقها بمحضر الكميت ونصر بن ذبيان، وجهزها وأرسلها في صحبتهما. ثم كتب مروان كتاباً يقول فيه هذه الأبيات:
—–
لا تعجلن أمير المؤمنين فقد … أُوفي بنذرك في رفق وإحسان
وما أتيت حراماً حين أعجبني … فكيف أُدعى باسم الخائن الزاني؟
أَعْذِر، فإنك لو أبصرتها لجرت … فيك الأماني على أمثال إنسان
فسوف يأتيك شمس لا يعادلها … عند الخليفة لا إنس ولا جان

ثم ختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، وسارا حتى وصلا إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان وسلما إليه الكتاب فقرأه وقال لقد أحسن في الطاعة وأطنب في ذكر الجارية. ثم أمر بإحضارها فلما رآها وجدها آية في الجمال لم يسبق له أن رأى مثيلاً لها في الحسن والبهاء والقد والاعتدال، فاستنطقها فوجدها فصيحة اللسان حسنة البيان، فقال: علي بالأعرابي. فأتي به وقد تغير حاله كثيراً وبدا مبتهجاً فقال: يا أعرابي! هل لك عنها من صبروأعوضك عنها ثلاث جوارٍ أبكار، كأنهن الأقمار، مع كل جارية ألف دينار، وأقسِّم لك في بيت المال كل سنة ما يكفيك وما يغنيك.
فلما سمع الأعرابي كلام معاوية شهق شهقة وأغمي عليه. فظن معاوية أنه مات ، فلما استفاق قال له معاوية: ما بالك يا أعرابي؟ قال الرجل: شر بالٍ، وسوء حال؟ استجرت بعدلك من جور بن الحكم، فبمن أستجير من جورك.
وأنشد يقول:
——
لا تجعلني، فداك الله من ملك … كالمستجير من الرمضاء بالنار
أُردد سعادَ إلى حَيْرانٍ مكتئبٍ … يُمْسي ويُصْبح في هم وتذكار
أطلق وثاقي، ولا تبخل علي بها … فإن فعلت فإني غير كفـّـار
والله والله، لا أنسى محبتها .. حتى أُغَيَّبَ في قبري وأحجاري
فاجمل بفضلك وافعل فعل ذي كرم — لا فعل غيرك، فعل اللؤم والعار
ثم قال: يا أمير المؤمنين، لو أعطيتني الخلافة ما أخذتها دون سعاد، وأنشد يقول:
أبى القلب إلا حب سعدى، وبُغِّضَت … إلي نساء، ما لهن ذنوب.

فقال له معاوية: إنك مقر بأنك طلقتها، ومروان مقر بأنه طلقها، ونحن نخيرها بيننا، فإن اختارت سواك تزوجناها، وإن اختارتك حولناها إليك. قال: لك ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال الأعرابي: ما تقولين يا سُعدى، أيهما أحب إليك، أمير المؤمنين في عزه وشرفه وقصوره وسلطانه وأمواله وما أبصرته عنده، أو مروان بن الحكم في تعسفه وجوره، أو هذا الأعرابي في جوعه وفقره، وأشارت إلى ابن عمها وأنشدت تقول:
هذا وإن كان في جوع وأضرار … أعز عندي من قومي ومن جاري
وصاحب التاج، أو مروان عامله … وكل ذي درهم عندي ودينار
ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان، ولا لغدرات الأيام، وإن له صحبة قديمة لا تسنى، ومحبة لا تبلى، وأنا أحق من يصبر معه في الضراء كما تنعمت معه في السراء.
فتعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين. . وأذن لهما بالانصراف.

قناة رحيل الليل

روابط قد تهمك: 

شارك الموضوع
إذا أعجبك المقال ،لا تَقْرَأْ وتَرْحَل، وتُحَمِّل وتَرْحَلْ … تَـعْلِيقَـاتُكَ تَـشْجِيعٌ لَـنَـا لِنَسْتَمِرَّ فِــي الْبَحْثِ وَالْعَطَـاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

حول الكاتب :   من أقصى شمال المغرب كاتب مقالات إلكترونية حول كيفية بناء موقع ويب ناجح : ووردبريس ، HTML ، CSS .ومواضيع مختلفة وناشط على اليوتيوب في قناة: Jabism Web و رحيل الليل
كتب 447 مقالة في jabism.com.
-:- راسلني   -:- تابعني على تويتر   -:- تابعني على الفايسبوك

22 عدد المشاهدات لهذا المحتوى
Scroll to Top